اقتصاديات التعليم العالي وأسرار نجاح الجامعات الغربية العريقة في إدارة العقول؟
وقعت وزارة التعليم العالي عقوداً مع الجامعات السعودية في شهر محرم. وقد بلغت تكلفة هذه المشاريع الخمسة 227مليون ريال ـ لإنشاء مراكز أبحاث المواد الهندسية والدراسات البيئية, ومركز علوم الجينوم الطبي, ومركز أبحاث تكرير البترول والبتروكيماويات ومركز الطاقة المتجددة ـ كان ورائها أهداف بعيدة المدى. رغم أن هذا المبلغ يساوي سدس ما قدمه رجل أعمال أمريكي عن نفس الفترة (سأتحدث عنه لاحقا)ً, فهذا التعاقد مع الجامعات لإنشاء مراكز التميز البحثي قد فتحت أبواباً جديدة من الاستثمار في المجالات الأكاديمية. ويمكن لهذا الاستثمار أن
يكشف أسرار النجاح في إدارة العقول, وكلنا نتفق على أن إدارة العقول أكثر صعوبة من إدارة المباني و الأرقم. السر الأول أن يكون هذا التوجه الرشيد باباً في إشراك طالب البكالوريوس والدراسات العليا في ممارسة دورهم الحقيقي في داخل الجامعات ودمجهم في عملية البحث العلمي بمردود مادي وعائد معرفي طويل الأمد. قد تكون أدوارهم في تنفيذ جزئيات كجمع المعلومات أو إدخال البيانات أو العمل في مجالات الملاحظة أو في تحضير المواد في المختبرات والمعامل. أعتقد أن هذه فرصة ذهبية إذا استطاعت الجامعات أن تجعل الطالب محور من محاورها في الحركة العلمية (وسر نجاح الجامعات الغربية العريقة ـ وإكسير نجاحها).
السر الثاني أن تكون هذه الفرصة الثمينة باباً لإغلاق تشغيل الطلاب في بحوث من دون مقابل, و تأسيس ثقافة جادة في أخذ الأمور البحثية باحترافية, وتجاوز مرحلة بحوث من أجل الترقية فقط. وهذا سوف يؤدي إلى اعتبار أن البحث مهنة جادة تدر ربحاً على القائمين بها من أساتذة وطلاب,وترفع من مستواهم المعيشي, وتحقق فائدة ميدانية لممولي هذه البحوث. كما أن هذه البوابة سوف تتيح مجالاً واسعاً لنشر بحوثنا في المنتديات العالمية بمصداقية ونتائج عملية ملموسة.
السر الثالث هو ما فعلته وزارة التعليم العالي من تعاقد مع الجامعات السعودية, لسد ثغرة تباطؤ القطاع الخاص وتراخيه الممل في التواصل مع الجامعات السعودية لأجراء البحوث والدراسات التطويرية (R&D) التي تعتبر جوهراً في الصناعة الحديثة الثقيلة والخفيفة وخلق بيئة صحية تدار فيها عجلة البحث العلمي على أسس واقعية.
مثال جيد على مشاركة القطاع الخاص في تطوير مراكز البحوث ليس هنا, أجل ليس هنا, ولكن في ولاية داكوتا في الولايات المتحدة الأمريكية, حيث تبرع البليونير الأميركي سانفورد هذا الشهر بمبلغ 1,500 مليون ريال (400 مليون دولار) من أجل تطوير مراكز البحث في مستشفى تلة سايوكس في هذه الولاية. هذه المستشفى نشأت في عام 1894م, لكي يصبح لديها اليوم أثنا عشر ألف موظف, و أربعمائة طبيب متخصص, و مائة وخمسة عشر عيادة متخصصة, و أربعة وعشرين مستشفى, و مركز سانفورد في التميز البحثي بحلول عام 2009م. كم هو رائع أن ترى مردود المال على صحة الأطفال والنساء وشرائح المجتمع الأخرى.
هذا بفضل العقل الاستثماري الوطني الحي في عقول هؤلاء القوم الذين يرون فيه إنجازاً يخلد أسمائهم على مدى التاريخ بعد وفاتهم. فأين رجال الأعمال السعوديين الذين ينأون بأنفسهم عن الأنانية المفرطة في حب الذات على حساب المصلحة الوطنية والقيم الأخروية. لكن المثير للدهشة هو أن أموال السيد سانفورد لا تتجاوز العشرة مليارات ريال أنفق سدس هذا المبلغ في خدمة المراكز العلمية. ووزارة التعليم العالي في المملكة مشكورة أنفقت سدس ما قدمه سانفورد كإشارة إلى رجال الإعمال السعوديين بأن الوقت قد حان لكي يدركوا حجم التقصير الذي أصابهم, وحفز الشعور الوطني لديهم لمشاركة التعليم العالي في نهضة الجامعات وتطوير أعمالهم وخدماتهم وفق معايير علمية تنافسية دولية, كما هي حال هؤلاء القوم الذين أشرنا إليهم سابقاً.
أما في نطاق التجربة السعودية فالخوف قد يكمن في تجاهل الجامعات لعناصر النجاح في هذه المشاريع, واعتماد العقل البيروقراطي الحسابي اللذي يوظف اللوائح على حساب روح النظام, وعلى حساب نجاح المشاريع وضمان مردودها الإيجابي على الناس (فاللوائح والمشاريع التي لا تحقق المصلحة للمواطن ليست بلوائح ولا مشاريع) وهذا بالتأكيد سوف يفسد ما تسعى إليه وزارة التعليم العالي في أنشاء جيل متكامل من فرق العمل البحثي المكونة من متخذي القرار ومصممي البرامج البحثية إلى الطبقة الدنيا من راصدي و جامعي البيانات ومحلليها (الطلاب), اللذين هم سر نجاح البحوث ومصداقيتها.
دعنا نضرب بعض الأمثلة لحياة الطالب الجامعي الأمريكي, فأحد الطالبات الأمريكيات عاشت خمس سنوات طالبة في جامعة ولاية كارولينا, وتمكنت أن تقوم خلالها بالعمل تحت مضلة أحد مراكز البحوث. فقد كانت تقوم بوزن حيوانات التجارب بصفة دورية, وتقوم بإيداع البيانات في قواعد المعلومات المخصصة لذلك في جهاز الحاسب. حققت هذه الفتاة عوائد مالية مكنتها من تجاوز مرحلة البكالوريوس, واكتسبت تجربة ميدانية في مجال البحث, وانعكس إيجابياً على أدائها الدراسي لتحصل على منحة من جامعة أخرى بناء على سيرتها الذاتية, بل وأصبحت طموحة كبقية زملائها وتسعى للانضمام برنامج الدراسات العليا في جامعة أخرى.
لقد حصل الكثير من الطلاب الأمريكيين على تجارب شخصية كثيرة, أكثر من كونهم طلاباً في فصول كبيرة ورقماً عديم الفائدة, عديم الطموح. هذه الفلسفة الرائدة دفعت الجامعات الأمريكية إلى تحفيز طلاب البكالوريوس على الانضمام إلى البحوث القائمة ومراكز البحوث في جامعاتهم أو في برامج المدينة أو الولاية وهكذا. وهذا التحفيز من خلال رصد درجات ضمن مقررات لهذا الغرض أو مبالغ مالية قائمة على تمويل الولاية والشركات لهذه المشاريع. أنا لا أنكر أن الطالب يعتبر عمالة رخيصة لأعضاء هيئة التدريس, ولكن هذه العمالة تحقق إنجازا ملموساً لذاتها, وإنجازا وطنياً في دفع عجلة التطوير للمنتجات والخدمات.
هل تصدق أخي القارئ أن أكثر من ثلث طلاب جامعة كاليفورنيا إريفن يشاركون في بحوث تطبيقية مع أعضاء هيئة التدريس. بل أن كلية البنات في رالـييه الأمريكية وغيرها تمارس نفس الفلسفة التعليمية بنجاح. بل إن هناك الآن مؤتمرات كثيرة ومجلات علمية متعددة تقوم بتسهيل مهمة الباحثين الجدد, من طلاب الدراسات الدنيا في الجامعات, وتعطيهم جل الفرص لعرض بحوثهم وأفكارهم. هل سمعت بإنجاز طلاب ولاية ميتشجان (كنت أحد طلابها عام 1980م) البحثي اللذي ترتب عليه اكتشاف احد جينات سرطان الثدي! الأمثلة كثيرة في هذا المجال وطلابهم يحققون فوائد كثيرة بدء من اكتساب الخبرة وحتى المكاسب المادية ونتائج البحث المرضية. لقد أصبح أكثر من 58% من طلاب الدراسات الدنيا في جامعة نيويورك يقومون بأعمال بحثية مقارنة بـ 15% قبل خمس سنوات. إذاً الإحصائيات والمتابعة ورصد الحركة العلمية في داخل هذه المؤسسات جعلها قادرة على قرآة الأرقام بشكل صحيح وتوجيه دفة التعليم العالي بشكل أصوب
وعلى المستوى الوطني, في هذه الدولة المليئة بالتجارب الجميلة والقبيحة, ليس هناك شيء أكثر أهمية وحرارة من بحوث طلاب الجامعات (ما قبل الحصول على درجة البكالوريوس). أما طلاب الدراسات العليا فهو أمر حتمي ومشاركتهم الجامعات في البحوث الربحية لا يتعدى الحقيقة, بل عين الحقيقة.
أنا أتسأل لماذا يحرص طلاب أمريكا وأوروبا على حضور الندوات والدوائر المستدير والمشاركة في برامج الدراسات العليا وغيرها, بينما تقل هذه الرغبة لدى طلابنا في المملكة, بل وحتى لدى الكثير من أعضاء هيئة التدريس عندنا. السر الأخير لأنهم يشعرون بأنهم أعضاء نشطون في هذه المؤسسات التعليمية, ومشاركتهم بالتأكيد تحقق لهم عائد ربحياً معنوياً أو مادياً, والعكس صحيح.
أخيراً, المملكة تملك عقولا رائدة وإمكانيات تجاوزت الحدود لكن ينقصها إدارة العقول في الجامعات. وعلينا أن نتفاءل بأن ما تخفيه الأقدار الربانية هو خير دائماً لهذا البلد الأمين.
[fusion_builder_container hundred_percent=”yes” overflow=”visible”][fusion_builder_row][fusion_builder_column type=”1_1″ background_position=”left top” background_color=”” border_size=”” border_color=”” border_style=”solid” spacing=”yes” background_image=”” background_repeat=”no-repeat” padding=”” margin_top=”0px” margin_bottom=”0px” class=”” id=”” animation_type=”” animation_speed=”0.3″ animation_direction=”left” hide_on_mobile=”no” center_content=”no” min_height=”none”][icon name=”icon-edit-sign”] كتبه : د. فهد عبدالعزيز الخريجي
[/fusion_builder_column][/fusion_builder_row][/fusion_builder_container]